BlogUncategorizedبرمودا الرقمي

برمودا الرقمي

في زاويةٍ معتمة من العالم الرقمي، يتكوّن شيءٌ ليس حوتًا ولا وحشًا،

بل حفرةٌ أنيقة اسمها “برمودا الرقمي”،

دوّامةٌ لا تبتلع السفن كحكايات البحّارة،

بل تبتلع وعيك أولًا… ثم تمدّ خيطها إلى بقية يومك دون أن تشعر.

فبرمودا الرقمي لا يحتاج أمواجًا ولا رياحًا.

يكفيه إشعارٌ واحد،

مجرد تنبيهٍ صغير،

لينقلك من إنسانٍ يخطط ليومه

إلى كائنٍ يبحث عن سبب ليبقى داخل الدوّامة خمس دقائق إضافية،

والتي تتحوّل بإبداعٍ مذهل إلى ساعة ونصف.

فهذا البرمودا لا يفتح فمًا، بل يفتح تطبيقات.

ولا يطارد أحدًا،

هو مجرد جالس في مكانه، واثقٌ من أنك ستدخل إليه بنفسك،

تمامًا كما يدخل الناس إلى الحفرة وهم يقولون

“ندخل بس دقيقة… نشوف وش السالفة.”

فتستيقظ صباحًا،

وقبل أن تقول “اللهم صباح خير”،

يكون “برمودا الرقمي” جاهزًا لاستقبالك،

يراقب ضعف يقظتك الأولى،

ويعرف أن اللحظة التي تمتدّ فيها يدك نحو الهاتف

هي اللحظة التي يبدأ فيها سحبك إليه بذكاء،

بأسلوبٍ ناعم لا يُشبه السقوط

بل يشبه الانزلاق الهادئ نحو مركز لا يُرى.

وبرمودا الرقمي

لا يجذبك بالقوة،

بل بذكاءٍ يلتقط هشاشتك اليومية.

يعرض عليك ما يشبه رغباتك،

وما يلامس مزاجك،

وما يجرّ جزءًا صغيرًا من فضولك

نحو مساحةٍ لا قرار لها.

وما تراه على الشاشة

ليس الدوّامة ذاتها،

بل أطرافها فقط..

لمحة، مقطع، صورة، فكرة…

أما العمق الحقيقي

فهو المكان الذي تُعاد فيه صياغة اهتماماتك

وفق ما يناسب الخوارزميات التي راقبتك طويلًا

وانتظرت اللحظة المناسبة لافتراسك بلطف.

ومع مرور الوقت

تنغلق عليك الدوّامة من دون صوت،

وتكتشف أنك لم تعد تمسك الهاتف،

بل أصبح الهاتف يمسك بك،

حيث يسحبك خطوة خطوة،

حتى ينقلب الزمن داخله

من دقائق متفرقة

إلى فراغٍ طويل

لا يشبه أي وقتٍ عشته خارج الشاشة.

وبرغم أن “برمودا الرقمي”

يبدو قوةً لا تُقاوم،

إلا أن نقطة ضعفه

قريبةٌ بشكلٍ مثير للسخرية،

إذ إنه يخاف من الوعي،

ومن اللحظة التي ترفع فيها رأسك فجأة

وتسأل نفسك

“ماذا تفعل أنت؟”

ففي تلك اللحظة بالذات

يتراجع تأثيره،

وتنكشف حقيقته

كدوّامة لا تكبر إلا بما تهبه أنت،

ولا تتضخّم إلا بمقدار ما تفقده أنت من انتباه.

وهناك،

حين تقف على حدود الدوّامة

وترى نفسك من بعيد،

تعرف أن بيدك سلاحًا

ظلّ البرمودا يخفيه عنك طويلًا، وهو

زرّ الإغلاق.

فضغطة واحدة

كفيلة بأن تعيد إليك نهارك،

وتسكت الصخب الصامت،

وتستعيد المساحة التي تُسمّى ببساطة

أنت… خارج البرمودا.

 

IMG 20251223 WA0003

 

مشاركة المقالة

https://tnawab.sa

الكاتب طارق محمود نواب