تخمةُ الأفكار
في زمنٍ كانت الفكرةُ تُولَد فيه من رحم التأمّل، وتُربّى على مهلٍ في حجر الوعي، كانت الكلمةُ تُوزَن بميزان الذهب، ويُحفَظ لها مقامُها بين المعاني. أمّا اليوم، فقد صار العقلُ كمدينةٍ مزدحمةٍ لا تعرف السكون، فالأفكار تتزاحم في أزقّتها كما تتزاحم الإعلانات على الجدران، حتى ضاع المعنى وسط الصخب، وذابت الفكرة بين مئاتٍ من أشباهها.
فنحن نعيش في عصر تُخمة الأفكار، لا في زمن ندرتها. فالمشكلة لم تعد في غياب الفكرة، بل في فرط وجودها بلا هضمٍ ولا تذوّق، حيث باتت العقولُ تشبع سريعًا وتنسى أسرع، كمن يتناول وجباتٍ معرفيّة سريعة بلا طعمٍ أو أثر. وكثرةُ المعلومات لم تُنتج وعيًا أعمق، بل أسهمت في تشويشه. وما أكثر الذين يملكون أفكارًا، وأقلّ الذين يملكون فكرًا.
لقد فقدت الفكرةُ اليوم طُهرَ ميلادها الأوّل، حيث تُستهلك قبل أن تكتمل، وتُستنسخ قبل أن تُختبر، وتُصفَّق لها الجماهير قبل أن تُفهَم. وصارت الفكرة حدثًا مؤقّتًا لا رؤيةً ممتدّة، وصرنا نعيش بين ومضاتٍ سريعة تُبهِر العين ولا تُضيء الطريق.
وحين تتكدّس الأفكار في الرأس بلا ترتيبٍ أو عمق، يصبح العقل مرهقًا لا خلاّقًا، فتصبح الكتابةُ تكرارًا، والنقاشُ استعراضًا، والقراءةُ عبورًا بلا أثر. إنّ تخمةَ الأفكار أخطرُ من جوعها، لأنّ الجائعَ يبحث، أمّا المتخَمُ فيستسلمُ للوهم بأنّه شبع من المعنى.
وربّما كان الحلّ في العودة إلى الفكرة البسيطة العميقة، تلك التي لا تُقال لتُقال، بل لتوقظ شيئًا نائمًا فينا. فعلينا أن نعود لنتأمّل بدل أن نعلّق، وأن نصمتَ كي نسمع، وأن نكتب حين يكون للحرف وزنُه لا صوته فقط.
فالفكرُ الحقيقي لا يُقاس بكثرته، بل بقدرته على البقاء.
والدهشةُ لا تُولَد من ازدحام الصور، بل من صفاء النظر.
ولعلّ أعظم الأفكار تبدأ من هدوءٍ واحدٍ يسبق الضجيج.
