BlogUncategorizedعلى قدر لحافك مدّ رجليك

على قدر لحافك مدّ رجليك

الراحة الحقيقية لا تقاس بما تملك من مالٍ أو جاه، بل بقدرتك على أن تعيش بطمأنينة داخل حدودك. فمن أرهقه اللهاث خلف المزيد لا يعرف للسكون طعمًا حيث يظل يركض من محطةٍ إلى أخرى دون أن يجلس يومًا ليسأل نفسه: هل أنا حقًا بحاجةٍ إلى كل هذا؟ وفي حين أن آخر، يكتفي بما بين يديه، فينام قرير العين مطمئن القلب، لأن اليقين الذي يسكُن صدره أوسع من أي وفرةٍ مادية.

ولأن القناعة ليست ضعفًا ولا استسلامًا، بل هي فنّ قراءة اللحظة. فمن يفهم أن لكل زمنٍ نصيبه، ولكل إنسانٍ رزقه، يحمي نفسه من الخيبات الكثيرة. وذلك لأن الطمع لا يشبع، بل يُشبه نارًا كلما ألقيت فيها حطبًا ازدادت اشتعالًا. فلا ثروةٌ تُطفئها، ولا مكاسبٌ ترويها. بينما القنوع، وإن قلّ ما عنده، يعيش في اتساعٍ داخلي لا يُدركه الطامعون.

فالحياة في جوهرها مزيجٌ من العطاء والمنع. ومن يقف أمام المنع بجزعٍ دائم يفقد لذّة العطاء حين يأتي، ومن يتذمّر مما لم يُكتب له، يعجز عن رؤية النِعم التي تحيطه كل يوم. والتوازن الحقيقي هو أن تعرف متى تقف، ومتى تمضي، وأن تدرك أن للخطوات حدودًا لا ينبغي تجاوزها، وإلا عرّضت نفسك لبردٍ قاسٍ لا يدفئه شيء.

وهنا ليس المقصود بالقناعة أن تجمد في مكانك، بل أن تفهم أن المسير لا يكون بالقفز فوق طاقتك. فالزمن يفتح أبوابه على مهل، والرزق يأتي في موعده لا في استعجالك. والحكيم هو من يعرف كيف يتهيأ للفرصة دون أن يحرق نفسه بالانتظار، ومن يزرع اليوم بما يستطيع، فيحصد غدًا بقدر جهده، لا بقدر طمعه.

وقديمًا قيل: الغنى غِنى النفس. فما نفع الثروات إن لم تهدأ الروح؟ وما جدوى البذخ إن ظلّ القلب جائعًا؟ فهناك من يملك الكثير، لكنه لا يعرف للنوم طعمًا، وهناك من لا يملك إلا القليل، لكنه يضحك بصفاءٍ كطفلٍ لا يحمل همّ الغد. الفارق بين الاثنين ليس ما في اليد، بل ما في القلب.

فالقناعة إذن ليست قيدًا، بل هي حرية… هي أن تتحرر من الحاجة إلى إثبات نفسك عبر ما تملك، وأن تتعامل مع الحياة باعتبارها ساحةً للعبور، لا ميدانًا للاستهلاك المستمر. وهي أن تدرك أن ما يُقسم لك سيأتيك، وأن ما لم يكن لك لن تبلغه، فلا تُهدر وقتك في مطاردة السراب.

وفي النهاية، الراحة ليست في امتدادٍ بلا نهاية، بل في الاكتفاء بما يكفيك، وفي الثقة أن ما لديك اليوم هو رزقك الحقيقي. حينها فقط، يصبح الدفء في داخلك أصدق من أي غطاء، وتصبح الطمأنينة رفيقك في كل طريق.

IMG 20250929 WA0089

مشاركة المقالة

https://tnawab.sa

الكاتب طارق محمود نواب