BlogUncategorizedمن عنترة إلى كليوباترا… لماذا بقي قيس؟

من عنترة إلى كليوباترا… لماذا بقي قيس؟

ليس الحب، في تاريخه الطويل، حكايةً عابرة تُروى للمتعة،

ولا قصةً رومانسية تُقاس بجمال نهايتها،

بل هو في جوهره امتحانٌ قاسٍ

يكشف عمق الإنسان،

وحدود المجتمع،

ومدى صدق القلب حين يُوضع تحت الضغط.

وقد عرف العالم عبر تاريخه قصص عشقٍ خُلِّدت لأنها لامست هذا العمق.

فعرفت قصة عنترة وعبلة،

حيث وقف الحب في مواجهة اللون والنسب والطبقية،

وظلّ العاشق يقاتل ليُعترف به إنسانًا قبل أن يُعترف به حبيبًا.

وعرفت قصة كليوباترا وأنطونيو،وهي الحكاية التي

تشابكت فيها المشاعر مع المصير الإنساني،

حتى أصبح الحب سببًا في انهيار مصائر

وتحوّل مسارات حياة كاملة.

وحتى في الذاكرة الغربية،

هناك من يعتقد إلى اليوم

أن روميو وجولييت قصة حقيقية،

مع أنها في أصلها

إحدى أعظم مآسي شكسبير الخيالية،

والتي خلّدها الصدق الإنساني في المشاعر

لا وقوعها التاريخي.

وكثيرة هي قصص الحب التي عرفها العالم،

واختلفت أسباب خلودها،

لكن قصةً واحدة

خرجت من إطار المقارنة،

لا لأنها كانت الأجمل،

ولا لأنها كانت الأشد مأساوية،

بل لأنها كانت الأصدق.

إنها قصة ليلى وقيس،

أو كما خلّدته الذاكرة العربية ب “مجنون ليلى”.

ولم يُخلَّد هذا الحب لأنه اكتمل،

ولا لأنه وجد قبولًا اجتماعيًا،

بل لأنه رفض أن يُجامل الواقع.

رفض أن يرتدي قناع الحكمة الزائفة،

أو أن يتنازل ليبدو مقبولًا.

فقيس لم يكن مجنونًا كما صوّرته الروايات السطحية،

بل كان واعيًا أكثر مما يحتمله زمنه.

أحب علنًا،

وفي مجتمعاتٍ تخشى المشاعر المكشوفة،

يُصبح الوضوح جريمة،

ويُسمّى الصدق جنونًا.

ولذلك لم يكن شعره ترفًا لغويًا،

بل صرخة وجود،

قال فيها

أمُرُّ على الديارِ ديارِ ليلى

أُقبِّلُ ذا الجدارَ وذا الجدارا

وما حبُّ الديارِ شغفنَ قلبي

ولكن حبُّ من سكنَ الديارا”

فلم يكن يقبّل الجدار،

بل كان يبحث عن أي أثر

لم تصادره الأعراف

ولم تُغلق عليه الأبواب.

أما ليلى،

فلم تكن غائبة عن المشهد،

بل مُغيَّبة داخله.

حُوصرت باسم الحكمة،

وأُسكت صوتها باسم العقل،

فصار صمتها جزءًا جوهريًا من الألم.

ولم تُمنح حقّ الحكاية،

فاكتفت بأن تكون مركزها الصامت.

وفي قصة ليلى وقيس

لم يُهزم الحب لأنه ضعيف،

بل لأنه كان نقيًا إلى حدّ الإرباك،

حبًّا لا يعرف المساومة،

ولا يُجيد فنّ التكيّف مع القيود.

فقيس، حين خرج إلى الصحراء،

لم يهرب من الناس،

بل انسحب من منظومة

لا تفهم العاطفة

إلا بوصفها خطرًا يجب احتواؤه.

فاختار أن يخسر العالم

كي لا يخسر ذاته.

ولهذا بقيت القصة حيّة.

لأنها لم تُكتب لتُستهلك،

بل لتذكّر الإنسان

بالثمن الذي يدفعه

حين يقرّر أن يكون صادقًا مع قلبه.

وأعظم حبٍّ في حياة البشرية

ليس الذي انتهى بالاكتمال،

ولا الذي صفق له المجتمع،

بل ذلك الذي كشف الحقيقة المؤلمة

أن الحبّ الصافي

لا ينجو دائمًا في عالم

يصوغ العلاقات بمنطق القبول

لا بمنطق الصدق.

وليلى وقيس أو “مجنون ليلى”

لم يكونا شخصين فقط،

بل موقفًا إنسانيًا كاملًا،

يتكرّر عبر العصور

بأسماء مختلفة،

لكن بالسؤال ذاته

هل نختار أن نكون كما نحن

أم كما يُراد لنا أن نكون؟

ولهذا،

لم يبقَ حبّ ليلى وقيس في الذاكرة

لأنه قصة قديمة،

بل لأنه لم يكفّ يومًا

عن أن يكون مرآةً للإنسان

حين يواجه الحب بلا أقنعة.

 

 

مشاركة المقالة

https://tnawab.sa

الكاتب طارق محمود نواب