كوكب ودراما الثقافة
على حافة مجرّةٍ مكتظّة بالضجيج،
يقف كوكب الثقافة وحيدًا،
وكأنه مسرحٌ عتيق انطفأت أضواؤه،
لكن بقيت فوق خشبته
دراما الإنسان بكل تناقضاته وارتباكاته الأولى.
في هذا الكوكب، لا يبدأ المشهد بصوت الممثل،
بل بصوت الفكرة وهي تولد،
وتتسلل إلى الوعي كما يتسلل الضوء
عبر شقّ نافذة منسية.
هنا تتشابك الشخصيات كما تتشابك الحكايات
قارئٌ على حافة الصفحة كمن يقف على حافة الهاوية،
وكاتبٌ يبحث في الحبر عن خلاصٍ مؤجَّل،
ومثقفٌ يحارب صمت العقول
أكثر مما يحارب ضجيج الجهل.
والثقافة هنا لا تتقدّم دائمًا،
أحيانًا تنهض كوهجٍ يشقّ العتمة،
وأحيانًا تتراجع كنجمةٍ متعبة
هربت من عين المتلقي.
فهي ليست فضيلة ثابتة،
بل دراما متجددة
تتغذّى على الأسئلة
وتتهشّم تحت ثقل الإجابات الجاهزة.
وتستمرّ المسرحية
خلافٌ يولّد رأيًا،
ورأيٌ يشعل نقاشًا،
ونقاشٌ يلد فكرة
قد تغيّر اتّجاه الزمن.
فالوعي الذي لا يُجرح… لا ينضج،
والعقل الذي لا يختلف… لا يتقدّم.
وعلى هذا الكوكب،
المعارك صامتة لكن عميقة
معركة بين الضجيج والمعنى،
بين الذين يبنون حقيقة،
والذين يكتفون بظلّها.
ولذلك يبدو المثقف دائمًا
كمن يحمل مصباحًا صغيرًا
في ليلٍ بلا نهاية
لا ليُبهر الآخرين، بل ليعرف الطريق.
وفي منتصف المسرح،
يقف الإنسان العادي يشاهد كل شيء،
ثم يكتشف فجأة أن الثقافة ليست نخبة تعلو عليه،
بل مرآة ترفع وجهه ليرى ذاته
أوضح… وأعمق… وأصدق.
فالإنسان، مهما بدا مشغولًا بعمره الأرضي،
تبقى روحه إن اختارت الثقافة
ترتفع إلى مدارٍ آخر،
مدارٍ لا تُقاس فيه القيمة
بعدد الكتب التي تُفتَح،
بل بعدد الأبواب التي تُفتَح داخلنا.
فهناك ندرك أن المعرفة ليست تراكمًا
بل تحوّلًا،
وأن الكلمة لا تُكتب لنثبت وجودنا،
بل لنفهم لماذا نوجد.
وفي الطبقة الأكثر خفاءً من هذا الكوكب،
توجد ساحة لا يدخلها إلا من خلع ثياب القناعة الجاهزة
وتجرّد من خوف السؤال.
فهناك تجلس الحقيقة على كرسيٍّ خشبي بسيط،
تسألنا بصوتٍ هادئ
“إلى أي حدّ تستطيع أن تكون نفسك؟”
فالثقافة ليست ما نكتبه،
ولا ما نحفظه،
بل ما نجرؤ على مواجهته في صمت الليل
حين ينكشف الضعف،
ويهتزّ ما نظنّه ثابتًا،
ونكتشف أننا
في العمق
لسنا إلا قصصًا تبحث عن كاتبيها.
فهناك، يصبح المثقف
ليس من يملك الإجابات،
بل من يملك شجاعة الوقوف أمام أسئلته.
ويصبح الكتاب مرآة،
والحبر اعترافًا،
وكل فكرة ولادة جديدة
تنفض غبار الأمس
وتسيرعاريةً ونقيّة نحو الغد.
وعند هذه اللحظة،
يبدأ الكوكب بالدوران من جديد،
ببطءٍ مهيب،
كأن الزمن نفسه ينحني احترامًا
لمن أدرك أخيرًا
أن العقل لا يضيء إلا حين ينطفئ الغرور،
وأن الوعي لا يكتمل
إلا حين نصغي لذلك الصوت الخافت في دهاليز الوعي،
ذاك الصوت الذي يُعلّمنا
أن الجمال ليس فيما نراه،
بل فيما نفهمه،
وأن المعرفة ليست امتلاكًا،
بل ارتقاءً.
وهكذا يبقى كوكب الثقافة،
خارج ضجيج المجرّة،
يدور بثباتٍ يشبه حكمة الإنسان حين يعثر على صوته.
ومن يصعد إليه… لا يعود كما كان،
بل يعود أكثر فهمًا،
أكثر صدقًا،
وأكثر قدرةً على رؤية العالم
لا كما يبدو،
بل كما ينبغي أن يكون.
