الذهب الذي لا يفقد بريقه
إنّ العقل الراجح هبة من الله لا يُدرك قيمتها إلا من أمعن النظر في مكنونات النفس البشرية، وارتقى بتفكيره عن سفاسف الأمور وهذه العقول، التي لا يُمكن وصفها إلا بالسموّ، هي زينة الوجود وعنوان الحكمة. لقد أدرك العرب منذ الأزل عظمة العقل حين قالوا: “عدوك ذو العقل خير لك من الصديق الأحمق.” فالعقل الراجح يظل سراجًا منيرًا لصاحبه ولمن حوله، يهدينا إلى طريق الرشاد ويجنبنا السقوط في مهاوي الضلال.
فصاحب العقل الراجح يُدرك مواضع أقدامه، فلا يُلقي بنفسه في ما لا يعنيه، ولا يستهلك طاقته في القضايا الهامشية، مهما كان بريقها. فهو إنسان يعرف كيف يحافظ على مسافة من كل ما يُمكن أن يُربك صفاء فكره، فلا يحشر أنفه في صغائر الأمور ولا يُشتّت تركيزه في الجليل والدقيق من شؤون الآخرين. وفي هذا الابتعاد عن الفضول حكمة تُعزز سلامه النفسي وتُحافظ على اتزانه.
وعلى مستوى المشاعر، فإن صاحب العقل الراجح هو سيد نفسه، لا سيد الانفعالات. فلا يغضب إلا لسبب يستحق الغضب، ولا يثور إلا في الوقت الذي يرى فيه أن الثورة ضرورة. هو في كل ذلك ضابطٌ لنفسه، ممسكٌ بزمام مشاعره، فلا يُمكن أن تُسيّره نوبات الغضب أو أن تُبدد حكمته عواصف الانفعالات.
وإن كان العقل الراجح عنوان الاتزان، فهو أيضًا رمز للاستقلالية. فلا يسمح هذا العقل لأحد بأن يُدير أفكاره أو يُصادر حريته الفكرية. ويرفض أن يكون تابعًا، ويأبى أن يعيش في ظلال الآخرين فهو عقل يُدرك قيمة الحرية الفكرية ويُجيد استثمارها في بناء مساراته الخاصة، غير مكترث بتقليد أو مسايرة.
فصاحب العقل الراجح لا يتوقف عند حدود العقلانية فقط، بل يتجاوزها إلى الإيجابية في التعامل مع الحياة حيث يُشرق وجهه بالأمل، ويُضيء دروب من حوله بروحه المتفائلة ويُدير حياته بمهارةٍ تليق بمن أدرك قيمة الزمن وقيمة العلاقات الإنسانية و يُحسن اختيار كلماته، فينصح برفق ويُعبر عن آرائه في الوقت المناسب، دون تعالٍ أو تسلط.
والجميل في صاحب العقل الراجح أنّه لا يعرف الجحود، ولا يُنكر المعروف. فهو إنسان يُقدّر النعم التي تحيط به، شاكرًا الله على عطاياه، ومعترفًا بفضل الآخرين عليه. لا يبطر بالنعم، ولا يُفسدها بنكران الجميل. بل يعيش في حالة من التوازن بين شكر الخالق والثناء على المخلوق.
أما أسرار الناس فتبقى في عقول أصحاب العقول الراجحة حرمة لا تُنتهك. هم لا يرضون لأنفسهم أن يكونوا رواةً لأسرار الآخرين أو جامعي زلاتهم. لا يُلاحقون الهفوات ولا يرصدون العثرات، بل يتجاوزون عن الأخطاء برقيّ يجعلهم فوق الصغائر. حتى في أوقات العداء، يحفظون لخصومهم حدًا من الكرامة، فلا يجاهرون بعداوة ولا يفرحون بكبوة.
وفي حياته الخاصة، يحتفظ صاحب العقل الراجح بمساحة من الغموض. لا يكشف أسراره بسهولة، ولا يُعلن عن مشاريعه إلا بعد أن تُثمر. يُغلق نوافذ بيته عن عيون الفضوليين، محافظًا على خصوصيته بإحكام ولا يُحب الضجيج ولا يسعى إليه، بل يُفضل الإنجاز على الإعلان.
وعلى كلٍ، فإنّ صاحب العقل الراجح يترك أثرًا لا يُمحى، ويُعلّم من حوله أنّ العظمة ليست في المظاهر ولا في الألقاب، بل في الرقيّ النفسي والعمق الفكري. نسأل الله أن يجعلنا من هؤلاء، وأن يُلهمنا السير على نهجهم، فإنهم بحقّ زينة الحياة وسراجها الذي لا ينطفئ.