BlogUncategorizedنزهة في شوارع العقل

نزهة في شوارع العقل

يعد الاعتناء بتطوير منهجيات التفكير من صميم عمل أكاديمية التغيير الداخلي للإنسان؛ لأن أي تغيير يحدث على أرض الواقع يسبقه تحول في فكر القائم على صناعة هذا التغيير، فنحن عندما نعمل للتأسيس لمستقبل جديد، نؤسس له وفق معطيات وتصورات محددة في عقولنا، فإن كانت هذه التصورات إيجابية وناضجة وفعالة انعكست على الواقع بعمل حي يرتقي بالمجتمعات ويعمل على تنميتها، وإن كانت هذه التصورات مشوهة أو مضطربة انعكست في ممارسات مذبذبة و مضطربة؛ لذلك فإن ثورة العقول هي بداية التغيير.

حيث إن ثورة العقول هي التي تمنح للإنسان بريق الفكرة، وبها تتقدم الأمم وتنهض المجتمعات.

حيث أننا نقوم بنزهة في شوارع العقل للتصدي لبعض أنماط التفكير ومواجه الأفكار القاتلة، ويسلط الضوء على زوايا دقيقة من نمط التفكير الحي الذي ينقل المجتمعات نقلات كبرى.

فلا يوجد لدى أحد منا خارطة توضح الشوارع التي يجب أن يسلكها في العقل .. بل علينا الاعتماد على أنفسنا، وأن نخوض الرحلة متحملين نتائجها، حيث تقودنا روح المغامرة والفضول، و بداخلنا رغبة الاكتشاف، فنبدأ بهمة عالية … في اكتشاف ما يدور في شوارع هذا العقل.

ففي الشارع الاول نجد تدميرا كبيرا للأفكار ويتواجد عددا كبيرا من الحراس، حيث نعلم عن طريق إحدى الأفكار الهامسات أن هؤلاء الحراس هم من يقوموا بمحاربة الدخلاء المتسللين للعقل، فهم من يدمروا مسارات التفكير خشية أن تمر من خلالها أفكار غير مرغوبة، لكن يبدو أن الحراس ليسوا هم السبب الوحيد في هذا الدمار، فقد كادت قدمي تصطدم بقنبلة موقوتة يسترسل عدادها في العد التنازلي، فبعض الأفكار تفخخ العقل لتنتقم من مخالفيها، وتخلق حالة من الهلع وعدم الثقة بين الأفكار؛ ولذلك ربما تطوعت بعض الأفكار لتجعل من نفسها حارسا، فهي تريد أن تتأكد بنفسها أن مخالفها لن يطأ مدينة العقل، ومن هنا يأتي تدهور مدينة العقل، فالعقل صمم كمختبر للأفكار، لا قاتل لها على الهوية. فلا يعنيه كثيرا أي الأفكار سيمسك بزمامه بقدر ما يعنيه ألا تعطب أجهزته الموكلة باختبار الأفكار.

وفي الشارع الثاني من شوارع العقل، استدعى أحد سكان العقل زملائه لبدأ حملة تطهير للمكتب من الأوراق القديمة، حيث تسلم كل واحد منهم أحد الأدراج ليعيد ترتيبه.. أخذ كل شخص منهم يقلب في الأوراق ورمى أحدهم ملفا به بعض الأوراق بلا مبالاة. أثار الملف انتباه الزميل الآخر، وانجذب إليه حتى أنهم كانوا عاجزين عن إخراج وجهه من داخل الملف!!، وأظن أن سر تباين تعامل الزميلين مع الملف، أن الأول رأى في أوراقه خمسة خطوط متوازية، بينما رأها الثاني سلما، ورأى الأول مجموعة من النقاط السوداء البعض منها له ذيل، بينما قرأها الثاني حروف لغة تنبض بالمشاعر المتدفقة، واعتبرها الأول أوراقا ليس لها مأوى سوى سلة المهملات واحتضنها الثاني كثروة من إهداء “بتهوفن”.

فكثيرا ما نواجه في حياتنا رموزا نتوهم أننا ندرك دلالاتها وعمق ما تحمله من معان فالطفل الصغير يرى “النوتة” الموسيقية خمسة خطوط تزينها أشكال سوداء، أما الأكبر سناً يخبرك أنها “نوتة” يقف عاجزا عن فك شفراتها، بينما يتمكن العازف من سماع اللحن بمجرد قراءة النوتة.

إن هذا يدفعنا دائما إلى طرح الأسئلة على ما نراه، فربما نرى القشرة وتعمى عيوننا عن رؤية الجوهر، أو اقتربنا مما نراه وازددنا عمقا في طرح الأسئلة عليه؛ أو اخترقنا جدار القشرة لنكتشف عوالم جديدة وهذا يجعلنا نعيش حياتنا كمكتشفين، مما يزيد من متعة الحياة، ويتجدد لنا يوميا إبهارها.

فلكي نستمتع بالحياة يجب أن نفهم لغتها، ولكي نتمكن من التأثير فيها فعلينا أن نتقن طرح الأسئلة عليها، ولكي نتجنب أعاصيرها يجب أن نسمع أصواتها قبل أن نراها فلحن الأعاصير مدون على النوتة التي لم نعر لها بالا.

فتعلمت وأنا سائر في شوارع العقل أو أتابع الأحداث أن أفك شفرات الرموز التي أمامي وأحولها إلى جمل استفهامية، فالمباني ليست أحجارا ولكنها جمل تحمل أسئلة شاهقة، والمتجولون في الشوارع ليسوا بشرا من لحم ودم ولكنهم جمل متحركة مشبعة بالأسئلة وكل سؤال بداخله سؤال أعمق. ربما يكون هذا من أسباب عدم اكتراثي كثيرا بعالم المادة وعشقي لهذا العالم “عالم الأفكار”.. حيث إنني أصهر المادة إلى فكرة؛ حتى أتمكن من فك شفرات ما أرى!!

وبهذه الطريقة يعاد تشكيل العقول، ويعاد تشكيل الفعل الميداني؛ لإحداث زلازل التحول على الأرض، وتقديم النقلات الكبرى في التجربة البشرية، فشوارع العقل كثيرة حاول أن تقم بنزهة في شوارع العقل من حين إلى أخر.

https://alnukhba.org.sa/#/articlesDetails/83

watermark fe6a5f51bc61827323d4d93cb5b00aa4 0

 

 

 

 

مشاركة المقالة

https://tnawab.sa

الكاتب طارق محمود نواب