BlogUncategorizedللكرم حدود

للكرم حدود


ليس كل عطاء يستحق التصفيق، ولا كل كرم يجد من يقدّره. فعليك أن تعلم أن هناك خيط رفيع بين النبل والاستغلال، وبين أن تكون كريمًا لأنك تؤمن بالعطاء، أو أن تُنهك نفسك في دروب لا تفضي إلا إلى الجحود. فالحياة ليست دفتر حسابات يُسجل فيه كل معروف، لكنها أيضًا ليست أرضًا مستباحة لمن لا يقدّرون الجميل. لذا، من المهم أن ندرك أن العطاء بلا وعي قد يتحوّل إلى عبء، وأن الطيبة المفرطة قد تُساء فهمها فتُصبح بابًا يُفتح على مصراعيه أمام من لا يستحق.

فأن تكون كريمًا لا يعني أن تكون مُستباحًا، ولا أن تُلقي بنفسك في دوامة من العطاء غير المشروط حتى تجد نفسك وحيدًا، ومنهكًا، وتتساءل: إلى أين ذهب الذين كنت تمنحهم بلا مقابل؟ ذلك السؤال الذي يُطرح بعد فوات الأوان، بعد أن تكون قد أعطيت حتى جفّت يداك، وبعد أن أدركت أن ليس كل من اقترب منك، اقترب حبًا، وليس كل من احتاجك، حفظ لك الود. وفي هذه اللحظة، لا بد أن تتوقف للحظة وتفكر: هل كان عطاءك في موضعه الصحيح؟ أم أنك كنت تمنح بلا تمييز، حتى لمن لا يقدّر؟

ولكن، هل الحل أن تتوقف عن العطاء؟ بالطبع لا، فالحياة تقوم على التوازن، وما نمنحه للآخرين يعود إلينا بشكلٍ أو بآخر، لكن المهم هو أن تعطي بوعي، وأن تدرك أن الكرم ليس فقط فيما تمنحه للآخرين، بل أيضًا فيما تبقيه لنفسك. فالكرم الذي يستنزفك ليس كرمًا، بل هو فخ وعلاقة تُبنى على الأخذ دون مقابل، وما هي إلا استنزافًا تحت اسم النبل. ولذلك، من الضروري أن تضع حدودًا واضحة، وأن تفرق بين من يستحق كرمك ومن يراك مجرد محطة في طريق مصلحته.

فحين تأتي اللحظة التي تحتاج فيها لمن وقفت معهم، وتجد نفسك وحدك، ستتذكر كيف كانوا يلجأون إليك عند الحاجة، وكيف لم يبخلوا بالتقرب منك عندما كنت مصدرًا للنفع. ولكن، حين احتجت إليهم، لم تجد إلا الصمت، وكأن المعروف يتلاشى في ذاكرة البعض حالما تنتهي مصلحتهم. وهنا، ليس عليك أن تحزن، بل أن تفهم. فالفرق بين الطيبة والسذاجة هو الإدراك، والإدراك هو ما يجعلك تعي أن ليس كل من ابتسم لك مخلص، وليس كل من احتاجك سيبقى وفيًا، فالحياة لا تعني أن تُحسن لمن لا يستحق، بل أن تميز من يستحق كرمك، ومن يرى فيك مجرد وسيلة. وهذا التمييز لا يعني أن تصبح قاسيًا أو أن تتغير، بل يعني أن تمنح بوعي، وأن تعطي لمن يقدّر، ولا تُنهك نفسك في ملاحقة من لا يرى فيك إلا بابًا يُفتح وقت الحاجة ويُغلق بعد انتهائها. فليس المطلوب أن تكون متحجر القلب، ولكن المطلوب أن تدرك قيمة ذاتك، وأن تعرف متى تتوقف، ليس ندمًا، بل احترامًا لنفسك، تقديرًا لما تمنحه، وإدراكًا بأنك لست مسؤولًا عن سدّ نقص الجميع.

فالعطاء بلا وعي عبء، والكرم بلا حدود استنزاف، ومنح القلب لمن لا يقدّره سقوط لا يشبهك. لذا، لا تتغير، لكن تعلم ألا تبخل، وفي نفس الوقت لا تُنهك نفسك من أجل من لا يراك إلا وقت الحاجة. وكن دائمًا على يقين بأن الأرزاق بيد الله، وأن الطيب لا يضيع، حتى لو لم تجده في قلوب البشر، ستجده في تدابير القدر. فالأيام كفيلة بأن تعيد ترتيب الأشياء، وكفيلة بأن تضع كل شخص في مكانه الصحيح، دون أن تبذل جهدًا لإثبات شيء لأي أحد.

 

IMG 20250312 WA0011(1)

مشاركة المقالة

https://tnawab.sa

الكاتب طارق محمود نواب