BlogUncategorizedكثرة التباهي نقص

كثرة التباهي نقص

التباهي ظاهرة متكررة ومألوفة، لكنه رغم ذلك فما هو إلا دليل على نقصٍ يسكن النفس، ونزيف خفي في ثقة لم تكتمل. فالبعض يظن أن رفع الصوت دليل على الحضور، وأن استعراض النجاحات هو السبيل الوحيد لإثبات الذات، غير مدرك أن التواضع وحده يكفي ليصنع الفرق، وليترك الأثر الذي تعجز عنه الضوضاء.

فالأقنعة تتساقط يومًا بعد يوم، وتتكشف حقيقة النفوس خلف الزخارف اللامعة التي كثيرًا ما تخدع البصر، ولكنها قلّما تخدع البصيرة. فالتباهي، وإن بدا في ظاهره ثقةً أو استحقاقًا، ما هو إلا انعكاس لفراغ داخلي، وصوتٌ مرتفع يخفي ارتجافًا خفيًا في الأعماق، إذ لا يصرّ على رفع صوته من يعرف قيمته. ولعل أكثر ما يفضح هذا النقص المتخفي هو ذلك الحرص المبالغ فيه على إظهار التميز وتضخيم الإنجازات، وكأن الإنسان يسابق ظلّه ليثبت للعالم أنه موجود.

وليس التباهي إلا مرآة مشروخة تعكس صورة مهزوزة لصاحبها، فهو لا يُعبّر عن قوة، بل عن حاجة دفينة للاعتراف، في حين أن التواضع، بكل ما يحمله من رقي ورزانة، يعبّر عن اكتفاء داخلي، وثقة لا تحتاج إلى تصفيق. فالمتواضع لا يطلب الرفعة، بل ترفعه السماء من حيث لا يحتسب، ولا يسعى خلف الأضواء، بل تُسلّط عليه الأضواء حين يحاول التواري. كما إن التواضع ليس خضوعًا كما يتوهم البعض، بل سلوك الأفراد العظام الذين أدركوا أن رفعة الإنسان لا تُقاس بصوته العالي، بل بصمته العميق، وأن الشموخ الحقيقي لا يحتاج إلى صراخ، بل إلى حضور هادئ يخترق القلوب.

ومن يتأمل في سِيَر العظماء عبر التاريخ، لا بد أن يلاحظ هذا الخيط الذهبي الذي جمع بينهم جميعًا، والذي لم ينقص من شأنهم، بل زادهم هيبة. فمن تواضع لله، أدرك أن ما بين يديه هو فضل، وما يرتجيه هو عطاء، وما يتجاوزه هو امتحان، فكان رقيّه انعكاسًا لنقاء سريرته، وسموّ أخلاقه دليلاً على اتساع أفقه،

فجوهر الإنسان لا يُقاس بما يُظهره من كلمات منمّقة أو بمظاهر تخطف الأبصار، بل بما يسكن قلبه من صدق، وبما تنبض به أفعاله من أثر. فالتباهي يبهت بمرور الوقت، أما التواضع فيزداد لمعانه كلما مر عليه الزمن، ولهذا فإن من اتكأ على غروره فقد أسند نفسه إلى وهم، بينما من استند إلى تواضعه فقد بنى نفسه على صخرة لا تهتز.

IMG 20250504 WA0122

مشاركة المقالة

https://tnawab.sa

الكاتب طارق محمود نواب