BlogUncategorizedفاصل ونواصل

فاصل ونواصل

حين تضيق عليك الحياة وكأنها تتآمر مع الوقت ضدك، وحين تتداخل أصوات العالم الخارجي مع صخب أفكارك الداخلية حتى لا تكاد تميز بين ما يجري في الخارج وما يضطرب في داخلك، هنا تحتاج أن تتوقف. ليس توقفًا عابرًا يشبه استراحةً من تعب، بل فاصلًا حقيقيًا يأخذك بعيدًا عن كل ما حولك، وعن نفسك أيضًا، إلى نقطة صمتٍ نادرة وسط كل هذا الضجيج وهنا يتوجب عليك ان تاخذ فاصلًا، لكن ليس كمجرد فعلٍ مادي كأنك تسعى للهرب من التزاماتك أو مسؤولياتك. بل اجعل هذا الفاصل لحظةً يتعرى فيها داخلك من كل أقنعته، لحظة تواجه فيها ذاتك التي أنكرتها طويلًا. فنحن نهرب دومًا من أنفسنا،حيث نخشى الوقوف أمام مرآة الروح لأننا نعلم يقينًا أن الصمت سيكشف ما نريد تجاهله. لكن الشجاعة الحقيقية ليست في مواجهة العالم، بل في مواجهة ما نخفيه عن أنفسنا، وما نحمله من ثقلٍ يوشك أن يهدّنا.
وفي هذه اللحظة، ستكتشف شيئًا مهمًا؛ أن الجري المستمر خلف الإجابات قد يفقدك الإحساس بالسؤال. فنحن نسجن أنفسنا في دوامة من التفكير المفرط، ظانين أن كل عقدة لا بد لها من حل، وأن كل سؤال لا بد له من إجابة. لكن أحيانًا، تكون أعظم الإجابات هي تلك التي تأتي حين نكفّ عن البحث. حين نصمت ونستسلم للحظة خالية من كل شيء،حيث يبدأ كل شيء في التشكل من جديد،
ففكّر في البحر حين يهدأ. هو ذاته البحر الذي كان قبل لحظاتٍ هائجًا، لكن السكون يجعله يبدو مختلف حيث يصبح انعكاسًا للسماء، عميقًا وصافيًا كأنه مرآةٌ لما حوله. وأنت، داخلك بحرٌ آخر. حين تتوقف عن مواجهة الأمواج وتدعها تمرّ من حولك، ستجد نفسك قادرًا على رؤية العمق الذي أخفيته تحت السطح. وستلمس في هذا العمق سكينةً لم تعرف أنك تملكها، وستدرك أن الصراع لم يكن مع العالم يومًا، بل مع ما تخفيه عن نفسك.
فقط خذ فاصلًا ودع عقلك يرتاح من عبء التحليل والتفكير. ولا تحاول تفسير كل ما يحدث حولك، ولا تسعَ لحل كل ما يواجهك. ففي لحظة اللاشيء، ستكتشف أن الحياة ليست معركة دائمة، وأن السلام ليس مجرد غيابٍ للحرب، بل هو حالةٌ داخلية. فأن تكون مسالمًا مع نفسك يعني أن تقبل بها كما هي بكل تناقضاتها، بكل قوتها وضعفها، بكل أحلامها وخيباتها.
وحين تتيح لنفسك هذه المساحة، ستشعر أنك لم تعد بحاجة للهرب أو المقاومة. فالعالم سيبقى كما هو، صاخبًا ومليئًا بالتحديات، لكنك ستتغير. ستصبح أكثر وعيًا بما يستحق انتباهك، وأكثر قدرةً على انتقاء معاركك بعقلانية. وستدرك حينها أن القوة الحقيقية لا تكمن في محاربة كل شيء، بل في اختيار ما يستحق أن تمنحه من طاقتك.
فالفاصل الذي تأخذه ليس هروبًا من الحياة، بل عودةٌ حقيقية إليها. وهو اللحظة التي تستعيد فيها سيطرتك على نفسك، بدلًا من أن تكون خاضعًا لها. كما إنه الوقت الذي تتحرر فيه من قيود التفكير الزائد، لتعيد اكتشاف المعنى في أبسط الأشياء. فأن تمنح نفسك فاصلًا يعني أن تختار الحياة من جديد، أو أن تعيد ترتيب ما بعثرته الأيام، وأن تُعيد ضبط بوصلتك نحو ما يهم حقًا.
فلا تخشَ أن تتوقف لأن الحياة ليست سباقًا مستمرًا، ومن يتوقف لحظةً ليلتقط أنفاسه لا يخسر السباق، بل يعود إليه أكثر استعدادًا.

IMG 20241220 WA0114

IMG 20241220 WA0114

مشاركة المقالة

https://tnawab.sa

الكاتب طارق محمود نواب