BlogUncategorizedالعقول الضيقة لا تتسع لك

العقول الضيقة لا تتسع لك

الابتعاد عن صغار العقول ليس غرورًا، ولا ينبغي أن يُفسر على هذا النحو. فالبعض يخلط بين الترفع الواعي والتكبر الأجوف، مع أن الفرق بينهما واضح لمن أراد أن يفهم. فحين يتجنب الإنسان الجدل العقيم أو النقاشات الفارغة،فلا يفعل ذلك لأنه يرى نفسه فوق الآخرين، بل لأنه يعرف قيمة وقته وطاقته، ويدرك أن بعض الحوارات لا تستحق أن تُخاض أصلًا.

فمن السهل أن يتهمك البعض بالغرور عندما لا ترد على كل تعليق، أو لا تنجرف مع كل رأي. لكن الحقيقة أن الترفع موقف نابع من احترام الذات، بينما التكبر شعور زائف بالعظمة. فالأول هدوء وثقة، والثاني ضجيج واستعراض.

فالترفع لا يعني تجاهل الناس، بل يعني اختيار من يستحق حديثك معه، لأنك ببساطة لا تملك الوقت لإثبات نفسك أمام كل من يشكك أو يستخف. أما المتكبر، فينطلق دومًا من رغبة في التحقير لا في التطوير.

ثم إن العقل الناضج لا يبحث عن صراع، بل عن وضوح. لذلك، فإن الابتعاد عن الصغائر ليس انسحابًا بل انتقاء. لذلك، وليس كل من يتحدث يجب أن يُسمع، وليس كل من يهاجم يستحق الرد. فهناك فرق بين من يختلف معك ليفهمك، ومن يختلف معك ليُسمع صوته فقط. وهنا مهم جدًا أن تعرف متى تصمت ومتى ترد.

ومن المؤسف أن البعض لا يرى في هدوئك إلا استعلاء، ولا يفهم أن الابتعاد أحيانًا هو أرقى أشكال الحكمة. فالترفع عن المهاترات لا يعني أنك لا تملك ردًا، بل يعني أنك اخترت أن تحافظ على نقائك، وأن تُبقي قلبك خفيفًا من ثقل النزاعات التي لا تنتهي. فليس كل نقاش مكسبًا، وليس كل مواجهة تستحق أن تُخاض، لأن بعض المعارك مجرد استنزاف لا أكثر.

ولأن الارتقاء لا يحتاج إلى ضجيج، فإن أرقى رد أحيانًا هو اللا رد. خاصة حين تعلم أنك أمام عقل صغير لا يريد الحقيقة، بل يبحث فقط عن فرصة ليُشبع غروره. فالترفع، إذن، لا يعني أنك الأفضل، بل يعني أنك أذكى من أن تدخل إلى ما لا يفيد. وهنا بالضبط يظهر الفرق العميق بين إنسان يعرف كيف يحافظ على سموه، وآخر لا يميز بين الحزم والتعالي.

وفي النهاية، ليس من الغرور أن تعرف متى ترحل بصمت. وليس من الغرور أيضًا أن تختار راحة بالك على أن تستهلك روحك في جدل عقيم. إنها مسألة وعي، لا كبرياء. ومتى ما فهم الناس ذلك، قلّت الأحكام الخاطئة، وكثرت المسافات الآمنة.

ولعل أجمل ما في الترفع أنه لا يحتاج إلى تبرير. فأنت لا تُجبر على تفسير صمتك، ولا ملزم بتوضيح أسباب انسحابك من حوار لا جدوى منه. فيكفي أن تكون صادقًا مع نفسك، ومدركًا أن الهدوء لا يعني الهروب، وأن الانتقاء لا يعني التجاهل، بل يعني ببساطة أنك تعيش بمعاييرك، لا بردود أفعال الآخرين.

 

IMG 20250417 WA0010

مشاركة المقالة

https://tnawab.sa

الكاتب طارق محمود نواب