العبرة ليست بالمكانة ولا بالألقاب
في هذه الحياة المتقلبة، لا يمكن للمرء أن يقيس الناس بموازين ثابتة أو يقف عند مظاهرهم وألقابهم، إذ إن التجارب وحدها هي التي تكشف حقيقة الأشخاص. فكم من رجل حسبناه ذا شأن، فإذا به يخذلك عند أول اختبار، وكم من شخص بسيط ظننته بلا حيلة، فإذا به يكون العون الذي لا يخذلك ساعة الحاجة. لذا، فإن العبرة ليست بالمكانة ولا بالألقاب، بل بالمواقف التي تكشف معادن القلوب وتحدد مدى صلابتها في مواجهة الظروف.
وعليه، فإن الاحتقار، مهما كان سببه، يعد عثرة يقع فيها المتسرع الذي يحكم على الناس من مظاهرهم أو يقيسهم بمقاييسه الخاصة، دون أن يمنحهم فرصة لإثبات حقيقتهم. في حين أن الحياة علمتنا، مرارًا وتكرارًا، أن الفائدة قد تأتي من حيث لا نتوقع، وأن النفع قد يصلنا ممن كنا نحسبه بعيدًا عن دوائر التأثير. فشيخ الجماعة، على الرغم من حكمته، قد لا يملك الحل، بينما رجل بسيط بكلمته الصادقة قد يفتح لك بابًا لم تكن تتخيله. لذا، من الحكمة أن نتريث قبل أن نصدر الأحكام المتسرعة، لأن الدنيا مليئة بالمفاجآت، ولأن المندفع قد يصدمنا إن زاد اندفاعه، خاصة إن كان العشم فيه كبيرًا.
ولأن الخذلان هو الألم الخفي الذي يعلّمك كيف تختار صداقاتك بعناية، فإنه أيضًا يعلّمك كيف تتفادى الصدمات بحنكة. فالذين كنا نحسبهم دروعًا لنا قد يصبحون مصدر الأذى، والذين اعتقدنا أنهم مجرد عابرين قد يكونون الملجأ وقت الضيق. وهكذا، تبقى هذه المعادلة معقدة، حيث لا يمكنك الحكم على الوفاء بالمظاهر، إذ إن المخلص الوفي قد تجده في زاوية بعيدة، بينما من كنت تظنه الأوفى قد يتبين أنه لا يحمل من الوفاء سوى اسمه.
ومن ناحية أخرى، تتشكل العلاقات في هذه الحياة وفق معايير خفية، فلا يكفي أن تكون ابن فلان أو أخ فلان لتكون على صواب، لأن الحق لا يُمنح بالألقاب، ولا تُصنع الحقيقة من كثرة التكرار. فكم من إشاعة سارت بين الناس حتى بدت كأنها يقين، وكم من حقيقة طُمرت تحت ركام الكلام حتى بدت وكأنها محض وهم. ولأن الزمن لا يرحم المترددين، فإنه يجعلنا ندرك، في مرحلة ما، أن كثرة الكلام لا تصنع حقيقة، بل على العكس، فإن الصمت في بعض الأحيان يكون أكثر بلاغة، واليقين يصبح ترفًا لا يمتلكه إلا القليلون.
ورغم كل ذلك، تظل هناك وجوه لا يمل الإنسان من رؤيتها، أشخاص تتمنى لو أنك تراهم في كل ساعة وساعة، لأن قربهم راحة لا تُمل، ولأن وجودهم في حياتك نعمة خفية لا يدرك قيمتها إلا من فقدها. وفي المقابل، هناك من يرحل دون أثر، ومن يمر في حياتك وكأنه لم يكن، وكأن الله أنساك إياهم رحمة بك، ليخفف عنك ثقل وجودهم.
وهكذا هي الدنيا، حيث تتبدل القناعات، وتتغير المقاييس، وحيث يكون الخوف في شرع المحبة شجاعة، وحيث تكتشف مع مرور الوقت أن الأهم ليس كثرة الوجوه حولك، بل ثبات القلوب القليلة التي لا تتغير مهما تغيرت الظروف.