اعرف مكانك وين؟
دروبنا ملتوية، فتتقاطع الأحلام بالواقع وتتشابك الأقدار، وبين ذلك يبقى السؤال الأهم: أين مكانك؟ وهذا ليس مجرد استفهام عابر، بل هو مفتاح لتفكيك رموز الذات وتحديد الاتجاه الصحيح في مسار طويل لا يرحم. ففي زمن يطفو فيه المديح على كل زاوية، وتغمرنا كلمات الإطراء التي تلوح في الأفق، ينسى البعض أن الإيمان الزائف بالقدرات قد يكون قيدًا أشد ثقلاً من الانتقاد الجارح. لكن الحقيقة المرة أن معظمنا لا يعرف مكانه الحقيقي، وأننا غالبًا ما نُخدع بتلك الكلمات التي تُقال لنا بعاطفة، دون أن تدرك أنها قد تقتلك بصمت.
في الوقت ذاته، هناك من لا يتورع عن انتقادنا بشدة حيث يركز على ما فينا من عيوب وكأن العالم ليس به سواها، وكأن هذا هو السبيل الوحيد لتحديد مسيرتنا ، تلك الأصوات التي ترى في كل خطوة نخطوها خطأ، والتي لا تترك فرصة إلا وتنفث فيها سموم الشكوك. إن هذا النوع من النقد، وإن كان يدَّعي الحرص، إلا أنه يغفل عن حقيقة مهمة: أن التقدم لا يأتي من التشاؤم، ولا من الاستخفاف بقدرات الآخرين. إن تلك الكلمات القاسية غالبًا ما تزرع الخوف في القلب، وتُشعرنا بالهشاشة، في الوقت الذي نحتاج فيه إلى أن نكون أكثر صلابة.
فالطريق إلى النجاح، إن كانت هناك كلمة يمكن أن تصفه، هو ذلك الذي يبدأ بمعرفة مكانك. أن تعرف أين أنت، يعني أنك في مرحلة الوعي العميق بذاتك. فلا نجاح يأتي من الغفلة، ولا تطور يتحقق بغير فحص دائم للنفس. من لا يعرف مكانه، لا يستطيع أن يتقدم. فهو يتنقل من مرحلة إلى أخرى، كالعصفور الذي يحلق في الفضاء دون أن يعرف إلى أي شجرة سيعود. فالحركة بلا هدف هي سراب، وإن كانت محاولات مؤقتة للإحساس بالتحرك، فهي لا تفضي إلى مكان جديد، بل إلى مزيد من التيه.
إذن، ما الذي يجب فعله؟ لا بد من البداية، ولا بد من تحديد الخطوة الأولى. لكن هذه الخطوة ليست مجرد انتقال من موقع إلى آخر، بل هي استيعاب عميق لما تقتضيه الرحلة من متطلبات ولعل تلك اللحظة التي تبدأ فيها بالاعتراف بقوة إرادتك وموهبتك، وتتعهد أمام نفسك أنك ستمضي قدمًا، مهما بدت الدروب صعبة. أن تكون واعيًا لمكانك يعني أن تملك القدرة على التقييم الموضوعي، وعلى التفريق بين ما يمكنك فعله وما لا يمكنك فعله في اللحظة الحالية، وأن تتخذ القرار الصائب بأنك، رغم كل شيء، ستظل تسير، وستظل تتحرك باتجاهك الصحيح.
فلكل منا الموهبة، ولكن لا يكفي أن نمتلك الموهبة فقط. إن الموهبة هي مجرد بداية، ولكنها تحتاج إلى العمل الجاد والمثابرة التي لا تعرف التراجع حيث تحتاج إلى إيمان قوي بأنك قادر على التحول، وأنك لن تقف عند أول عقبة وهذا هو سر النجاح، الإصرار، الصبر، والقدرة على المضي حتى حينما يغيب الأمل. فالطريق ليس سهلاً، ولكنه ليس مستحيلاً أيضًا، كما يتوهم البعض وكل خطوة تتطلب شجاعة، وكل محطة جديدة تعني أن هناك تضحيات يجب أن تُقدم، وأن أمامك تجارب قد تكون مؤلمة، لكنها ضرورية لبناء أساس متين للمستقبل.
فالصبر على التحمل، والقدرة على النهوض بعد كل سقوط، هي ما تمنحك القوة لتتجاوز محطات الفشل. إذ لا نجاح يأتي دون ألم، ولا قمة تُبلغ دون شقاء فالقدرة على الوقوف في وجه الهزائم، والتعلم منها، هي ما يصنع الفرق بين من يسيرون على الطريق السريع نحو المجد، ومن يضلون الطريق. في كل مرة تعثر فيها، وهناك درس جديد، وكل لحظة تشعر فيها بالضعف، هناك خطوة قادمة ستحقق فيها فوزًا جديدًا.
والأمر الأهم في هذا كله، هو أنك إذا كنت على الطريق الصحيح، فإن المكان الذي تعتقد أنك فيه الآن هو مجرد محطة مؤقتة، وليست النهاية. عليك أن تعرف انه ليس فقط مكانك، بل ما يترتب على معرفتك لهذا المكان. أن تتقدم خطوة للأمام، وأن تدرك أن المدى الذي ستبلغه ليس محصورًا، وأنك، بقدراتك وإرادتك، قادر على تجاوز القيود التي فرضها عليك الآخرون، سواء كانوا مثبطين أو مشجعين. فالذي يعرف مكانه حق المعرفة، يعرف أن لا شيء ثابت في هذا العالم، وأنه لا مكان للركود.
في النهاية، إن الرحلة لا تنتهي بسلامة الوصول، بل تبدأ حين تدرك أين تبدأ، وحين تصر على أن لا تقف، مهما تكن الظروف وتاكد إن صبرك على هذه المسافة، وجرأتك على المضي، هما ما سيحددان إن كنت ستظل في المكان ذاته أم أنك ستصعد إلى ما هو أعلى.